الكاتب عبدالله الفوزان مرايا سعودية (10)
جواهر السعودية المصونات
من عيوب (عدُّولي) القوية أنه يخرج عن النص... صحيح أنه شديد التركيز مع الأستاذ في الفصل... وسريع البديهة... ويفهمها وهي طايرة... ولكن تأتي المشكلة عندما لا يعجبه ما يقوله الأستاذ... إذ ينحرف مئة وثمانين درجة... فيرفع رأسه إلى أعلى كأنه ينظر للسقف... ثم يخفض بصره باتجاه المدرس ورأسه هكذا مرفوع... ويظل على تلك الشاكلة وهو ينظر للمدرس في حالة استعلاء شديد... كأنه في القمة والأستاذ في السفح، ثم يخرج القلم والورق من حقيبته ويشرع في كتابة آرائه المختلفة على طريقته.
في ذلك اليوم كان الأستاذ يتحدث عن مكانة المرأة في الإسلام، فقال إن الإسلام أعلى مكانة المرأة وكرمها وأنصفها ونقلها معه تلك النقلة المشهودة... وأفاض الأستاذ في الحديث عن تلك النقلة فأورد صوراً عديدة من حياة المرأة في الجاهلية وحياة الصحابيات وكان (عدُّولي) منصتاً يهز رأسه بالموافقة... ثم انتقل الأستاذ للعصور الإسلامية اللاحقة... وحينئذ بدأ (عدُّولي) بالتدريج يفقد التوافق والانسجام مع الأستاذ فيما يقول... ووصل الأستاذ للعصر الحاضر، وبدأ يتحدث عن المرأة في المملكة العربية السعودية فقال إنها موضع اهتمام الرجل وتقديره، وإنه يخاف عليها ويحرص على راحتها ويفديها بروحه، ويعتبر نفسه في خدمتها، ولذلك لا مانع لديه من أن يشقى هو لتشعر هي بالراحة والسعادة، وتظل معززة مكرمة في بيتها الذي هو مملكتها... وحينئذ رفع (عدُّولي) رأسه للسقف... واستمر الأستاذ يتحدث عن التقدير الكبير الذي تحظى به المرأة في المملكة... وحين بدأ مقارنتها مع المرأة في الدول الغربية أو حتى في الدول العربية وبدأ يقول إن المرأة في الغرب وفي كثير من الدول العربية أصبحت سلعة في حين أنها في المملكة ظلت هي الجوهرة المصونة تحرك (عدُّولي) حركته الملولة التي يلجأ لها عندما يصل ذروة الخلاف مع ما يقوله الأستاذ، فأخرج كعادته القلم والورق من حقيبته وبدأ يكتب رأيه على طريقته.
كتب أولاً عنواناً في أعلى الصفحة... هكذا (جواهر السعودية المصونات)... ثم بدأ يتحدث عن أصناف تلك الجواهر... فكتب التالي:
أولاً: الجواهر الشهيدات
وتمثلهن المرحومة سعاد التي تخرجت من كلية التربية للبنات التابعة لرئاسة تعليم البنات (سابقاً) وتزوجت، وشجعها زوجها على العمل، وحاولت العثور على عمل في مدينة الرياض، حيث تقيم أو في المناطق المجاورة ولكنها لم تجد إلا مدرسة في إحدى قرى القويعية البعيدة، فحاولت إقناع زوجها المدرس أن ينتقل معها لتلك القرية حتى يقيما معاً فيها، فقال... أعوذ بالله... أسكن في تلك القرية...؟؟!! ليه...؟؟ هو أنا مجنون...؟؟!! إلا روحي وارجعي في نفس اليوم مثل غيرك... واتفقت مثل الآلاف غيرها مع صاحب سيارة (جمس) يقودها سائق قدم للتو للمملكة مهاراته في القيادة ضعيفة بل معدومة، ولا يعرف شيئاً عن الصيانة... وأصبحت تذهب إلى تلك القرية مع أربع زميلات لها... يمر عليها السائق كل يوم قبل صلاة الفجر وتمضي ما يقارب الثلاث ساعات في مشوار الذهاب ومثلها في مشوار الإياب وأحيانا تكون وحيدة مع السائق خاصة في بداية المشوار ونهايته، وظلت عدة سنوات في هذا العذاب حاولت خلالها كثيراً أن يتم نقلها للرياض أو حتى لمناطق أخرى من القرية التي تعمل فيها، ولكن بدون فائدة، وحاولت إقناع زوجها بالانتقال معها ولكن بدون فائدة، ومنذ سنة انفجر كفر السيارة في الطريق وكانت السرعة تزيد على مئة وأربعين كيلومترا فانقلبت السيارة عدة مرات وانتقلت إلى رحمة الله مع زميلاتها فارتاحت برحمة الله من هذا العذاب والشقاء اليومي الشديد.
ثانياً: الجواهر المشلولات
وتمثلهن (هند) التي تخرجت في جامعة الملك سعود بالرياض، وحاولت أن تجد عملاً في الرياض فلم تجد لا في الرياض ولا في المناطق القريبة واضطرت للعمل مدرسة في إحدى قرى الخرج البعيدة بعد أن أقنعها أهلها بذلك حتى يساعد ذلك في الإسراع بزواجها ولا تبقى عانساً مثل بعض قريباتها، لكون المدرِّسة مرغوبة بسبب راتبها... ومثل غيرها من الآلاف اتفقت مع صاحب سيارة (صالون) مع ثلاث من زميلاتها، بعد أن حاولت كثيراً إقناع أحد إخوتها العشرة ممن (يتسدَّحون) في المنزل بلا عمل أن يسكن معها في القرية لتتخلص من عذاب المشوار اليومي الشاق ولكن لم تستطع إقناع أحد، وبعد أن أمضت عدة أشهر في العمل تذهب مع الفجر ولا تعود إلا قبل المغرب، حاولت مرة أخرى إقناع إخوتها العاطلين (بلا عمل) أن يسكن أحدهم معها في القرية وتعطيه نصف راتبها، ولكنها لم تستطع إقناع أحد منهم. فبدأت تحاول الانتقال إلى الرياض أو إلى أماكن أخرى، ولكن بلا فائدة أيضاً. وظلت عدة أعوام في عذاب يومي وبلا عريس أيضاً، ثم حصل لها ولزميلاتها حادث مثل تلك الحوادث التي تقع للمدرسات، توفيت فيه زميلاتها، وأصيبت هي في عمودها الفقري ونجت من الموت لكن أصيبت بشلل رباعي، وهي الآن إما على فراشها في منزلها، أو على الكرسي المتحرك، تتذكر ماضيها أحياناً وتتصور مستقبلها فتجهش بالبكاء الشديد.
ثالثاً: الجواهر المطلقات
وتمثلهن (عائشة) التي تقطع يومياً أكثر من ثلاثمئة كيلومتر في الذهاب والإياب بين منزلها في الرياض وعملها في إحدى قرى الوشم البعيدة، بعضها ترابية ووعرة، وتحاول أن ترعى طفليها بالتعاون مع خادمة آسيوية... تذهب في الصباح الباكر وطفلاها نائمان، وتعود بعد العصر، ولا تدري ماذا ستفعل بعد عام عندما يصل طفلها الأكبر لسن الدخول للمدرسة... لها الآن في هذا العذاب أكثر من ثماني سنوات... حاولت كثيرا النقل إلى الرياض ولكن قيل لها إن الحاجة نادرة لمدرسات الجغرافيا... لقد تزوجت منذ سبع سنوات من شاب كان يبحث عن مدرسة لتعينه في مشوار الحياة الصعب، كما كان يقول، ومر عام ثم عامان، وبدأ يتذمر لكونها لا تعود إلا بعد العصر فلا تعد له طعام الغداء في الوقت المناسب، وتذهب في الصباح الباكر قبل أن يستيقظ من النوم، ومضت حياتهما في نكد شديد... خصام بعد خصام... وبعد أربعة أعوام طلقها بعد حالة خصام شديدة قائلاً... (هذي مهيب عيشة).. وتكرم عليها بإبقاء طفليها معها لتتولى رعايتهما والصرف عليهما ولأنها قد يئست من تحسن وضعها فهي الآن قانعة لا تريده أن يتحسن لكن تخشى أن يسوء... فهي تفكر أحياناً ماذا ستفعل إذا كبر طفلاها... ماذا ستفعل إذا... وإذا... ولأنها لا تجد حلولاً فإنها تغمض عينيها وتهز رأسها وتحاول أن تنسى.
رابعاً: الجواهر العوانس
وبدل أن يستمر (عدُّولي) في سرده للنماذج توقف... وقال لنفسه... لا... هذا يكفي... ثم كتب... أكتفي بتلك النماذج الثلاثة... إذ إن النماذج كثيرة عديدة... وكل نموذج يمثل آلاف الجواهر المصونة التي قال المدرس الفاضل إن الرجل يفتديهن بروحه و... وفجأة وجد عدُّولي أن الأستاذ واقف بجانبه يقرأ أسطره الأخيرة... فرفع رأسه وجمع الورق... وأعطاه الأستاذ وهو يقول... يا أستاذ... أرجوك... قل لي أي تلك الجواهر هي المصونة أكثر في رأيك...؟؟