بر الوالدين
للشيخ \ابن عباس
بر الوالدين
واجب على الأبناء، فيجب عليهم أن يحرصوا على هذا المقام العظيم، وأن يدركوا أن هذا البر لن يفي للوالدين حقهما، ولن يكون قضاء لدين الولد لهما، بل يظل الفضل والمعروف لكل منهما.
وعلى الأبناء أن يدركوا أن حق الوالدين لا يفضله ولا يفوقه حق أي إنسان آخر كالزوجة والولد وغيرهما.
وفي ثنايا هذه المادة تتناثر الصور والنماذج للطاعة والعقوق، وتغلب عليها شكوى الآباء وغفلة الأبناء، وإن تعجب فعجب أمر من يبحث عن الراحة والسعادة وبينه وبين الجنة خطوات تفصله عن قدم أمه.
صور من بر الوالدين وعقوقهما
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.
أما بعــد:
أيها الإخوة الكرام: أيها الأخ المستمع! أيتها الأخت المستمعة! حديثي إليكم في هذه الليلة عن بر الوالدين، ولا أظن مثلي يستحق أن يتكلم بهذه الكلمات، ولا أظن أني أهل.. لهذا الموضوع، ولكن من باب: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].
بر الوالدين مقام عظيم، وأظن أن من سمع هذه القصص والحكايات واعتبر فسوف يتهم نفسه بالعقوق، ولا أظن أحداً -أيها الإخوة- سوف يسمع هذه القصص وتلك العبر، إلا وسوف يتهم نفسه بكبيرة من الكبائر، بل هي بعد الإشراك بالله جلَّ وعلا، ألا وهي عقوق الوالدين، بل لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؟ قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله ) فهو خير حتى من الجهاد في سبيل الله، والعقوق شر من الفرار يوم الزحف.......
رجل يطوف بأمه على ظهره
وهذا رجل يماني يطوف بالبيت، يحمل أمه العجوز على ظهره، ويطوف بها بالبيت، من منا يفعل هذا؟ ومن منا يتصور هذا قبل أن يفعله؟ يحمل أمه على ظهره ثم يطوف حول البيت، هل وصلنا بالبر إلى هذا المستوى؟ هل وصلنا بطاعة الوالدين وحبهما إلى هذه الدرجة؟ يحملها على ظهره فيطوف بالبيت، فيرى ابن عمر ذلك الرجل الصحابي الفقيه، فقال له: [يا ابن عمر ! أتراني جزيتها؟ -تراني بهذا الفعل جزيت حق أمي وأرجعت لها الحقوق- فقال له ذلك الرجل العالم ابن عمر : لا. ولا بزفرة من زفراتها ]، ولا بطلقة من طلقاتها حين وضعتك من بطنها.
مهما فعلت -يا عبد الله- ومهما أحسنت إليها، فإنك -يا أخي الكريم- لن تصل إلى حقها ولو فعلت ما فعلت.
واسمع إلى القصة الأولى، وسوف نسرد هذه القصص ونتلوها ببعض العبر، وأرجو منك أخي الكريم أن ترعي لي سمعك وتنتبه، فهذه القصص ليست من نسج الخيال بل هي من واقعنا وواقع من قبلنا، ثم اعلم -يا عبد الله- بأن القصص غير هذه كثيرة وكثيرة، وغير هذه الحكايات أكثر، بل إنني استحيت من ذكر بعض القصص، وخجلت من ذكرها، لما فيها من وقاحة وعقوق وأنزه هذا المسجد وأنزه سمعك الطيب عن سماع مثل هذه القصص.
قصة عاق يفضل زوجته على أمه
فهذه قصة يرويها أحد بائعي المجوهرات، يقول: دخل عليَّ في المحل رجل ومعه زوجته، وخلفه أمه العجوز تحمل ولده الصغير، أربعة دخلوا في المحل، يقول: وأخذت زوجته تشتري من المحل، وتشتري من الذهب، وتأخذ من المجوهرات، ثم قال له هذا الرجل للبائع: كم حسابك؟ فقال له -وأنا أخبركم بالعملة التي ذكر بها الشيخ-: عشرون ألف ريال ومائة، فقال هذا الرجل: ومن أين جاءت هذه المائة؟ نحن حسبناها عشرين ألف، من أين هذه المائة ريال؟ من أين جاءت؟ قال: أمك العجوز اشترت خاتماً بمائة ريال، قال: أين هذا الخاتم؟ قال: هو ذا، فأخذ ابنها الخاتم ثم رماه إلى البائع، وقال: العجائز ليس لهن الذهب، ثم لما سمعت العجوز تلك الكلمات، بكت وذهبت إلى السيارة، فقالت زوجته: يا فلان! ماذا فعلت؟ لعلها لا تحمل ابنك بعد هذا.
لعلها لا تحمل لنا الابن، كأنها أصبحت خادمة، فعاتبه بائع المجوهرات، ثم ذهب إلى السيارة، وقال لأمه: خذي الخاتم إن كنت تريدين، خذي هذا الذهب إن أردتيه، فقالت أمه: لا والله لا أريد الذهب، ولا أريد الخاتم، ولكني أردت أن أفرح بالعيد كما يفرح الناس، فقتلت سعادتي فسامحك الله، فسامحك الله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] فبعد التوحيد والعبادة، ماذا يا رب: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ [الإسراء:23] لأن وقت الكبر أحوج ما يكونان إلى الأبناء، إلى الولد.
يا عبد الله! هذا وقت الحاجة، وهنا ترد الجميل، وهنا تحسن إليهما كما أحسنا إليك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] هل سمعت بكلمة أصغر من أف؟ إنك تستجيب ولكن بتأفف، تقول لك أمك: افعل، تفعل ولكنك متأفف، فهذا عقوق، وهذه كبيرة من الكبائر: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23] أي: أنك تشير بيديك إشارة، كأنك متضايق منهما، فتستجيب ولكن لا ترد عليهما بالكلام، ولكنها إشارة تدل على أنك تنهرهما: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24].
وكم وكم يا عبد الله من الرجال في هذه الأيام يقدمون الزوجة على الأم! يأتي إلى البيت بهدية، وتنظر الأم وترى بعينيها، لمن هذه الهدية؟ إنها للزوجة، يدخل الغرفة ويغلق الباب فيعطيها لزوجته، أين حق الأم؟ نسي الأم، فما تذكرها، يشتري لزوجته الملابس، ويسكنها أفخم الأثاث، ويلبسها أغلى الذهب والمجوهرات، ولكن أين أمه؟ لقد نسيها، منذ متى عرفت زوجتك يا عبد الله؟! كم أحسنت إليك الزوجة؟!
إن أمك قبل أن توجد على وجه الأرض كانت تحسن إليك، وكانت ترأف بك وكانت ترحمك وتشقى لأجلك قبل أن تنزل على وجه الأرض، أنسيتها -يا عبد الله- حينما تزوجت ولم تذكر حقها؟!
يا عبد الله! كم وكم من الرجال من يأخذ زوجته في سفر، وفي رحلة، وفي نزهة، ولا يكلف نفسه أن يقول لأمه: أتريدين الذهاب معنا؟ هلا سافرت معنا! فتجده لا يريدها.
يقول: الأم تضايقني، ولا تجعلني أرتاح مع زوجتي.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: [إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة ] يقول: ما في الدنيا عمل أكثر قربة إلى الله من بر الوالدة: (الزم قدميها فثم الجنة ).
شاعر يصف عقوق ابنه
واسمع إلى القصة الثانية: واسمع -يا عبد الله- إلى هذا العقوق، لتعلم أن ما خفي أعظم.
في السير أن أحد الأعراب وفد على الخليفة يبكي، فقال له: ما بك؟ قال: أصبت في ولدي بأعظم من كل مصيبة. قال: وما هي؟ -تخيل شيخاً كبيراً يبكي، وتخيل رجلاً كبيراً في السن يبكي بين يدي الخليفة- قال: ربيت ولدي، سهرت ونام، وأشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر واحدودب الظهر، تغمط حقي، ثم بكى بكاءً مراً، وقال:
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
فبكى وأبكى كل من في المجلس.
أيعقل أن يكون في الأولاد من يأخذ المال من أبيه ظلماً؟!
أيعقل أن تصل الوقاحة في الشخص أن يظلم والده؟!
أيعقل أن يكون هناك في الناس عقوق مثل هذه العقوق؟!
اسمع ماذا يقول الشاعر على لسان الأب كأنه يخاطب ابنه، وكن أنت كأن أباك يخاطبك بهذه الكلمات، فاسمعها وعها يا عبد الله:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تُعلُّ بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت لشكواك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت حتم مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذلم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
يا ليتك عاملت أباك كما يفعل الجار! يا ليتك جعلته كالصاحب! كم وكم من الناس من يزعمون الصلاح ومن يتظاهرون بالإسلام، ومن يتمسكون ببعض السنة؛ يحسن إلى صاحبه، ويعامل أصدقاءه بأحسن معاملة، فإذا جاء لأبيه وإذا جاء لأمه، اسمع لكلمات العقوق، واسمع للرفض، إذا قالت له أمه: أريد زيارة فلانة؟ قال: ألا يوجد غيري في البيت؟! اذهبي إلى فلان، ليذهب بك فلان، سبحان الله! أما إذا قال له صاحبه، وصديقه وجاره وخليله، فإنه لا يتأفف ولا يتردد، بل يستجيب أيما استجابة.
عبد الله: أسمعت بعقوق كهذا؟! أسمعت في الناس من يفعل مثل هذه الأفعال؟!
للشيخ \ابن عباس
بر الوالدين
واجب على الأبناء، فيجب عليهم أن يحرصوا على هذا المقام العظيم، وأن يدركوا أن هذا البر لن يفي للوالدين حقهما، ولن يكون قضاء لدين الولد لهما، بل يظل الفضل والمعروف لكل منهما.
وعلى الأبناء أن يدركوا أن حق الوالدين لا يفضله ولا يفوقه حق أي إنسان آخر كالزوجة والولد وغيرهما.
وفي ثنايا هذه المادة تتناثر الصور والنماذج للطاعة والعقوق، وتغلب عليها شكوى الآباء وغفلة الأبناء، وإن تعجب فعجب أمر من يبحث عن الراحة والسعادة وبينه وبين الجنة خطوات تفصله عن قدم أمه.
صور من بر الوالدين وعقوقهما
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.
أما بعــد:
أيها الإخوة الكرام: أيها الأخ المستمع! أيتها الأخت المستمعة! حديثي إليكم في هذه الليلة عن بر الوالدين، ولا أظن مثلي يستحق أن يتكلم بهذه الكلمات، ولا أظن أني أهل.. لهذا الموضوع، ولكن من باب: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].
بر الوالدين مقام عظيم، وأظن أن من سمع هذه القصص والحكايات واعتبر فسوف يتهم نفسه بالعقوق، ولا أظن أحداً -أيها الإخوة- سوف يسمع هذه القصص وتلك العبر، إلا وسوف يتهم نفسه بكبيرة من الكبائر، بل هي بعد الإشراك بالله جلَّ وعلا، ألا وهي عقوق الوالدين، بل لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؟ قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله ) فهو خير حتى من الجهاد في سبيل الله، والعقوق شر من الفرار يوم الزحف.......
رجل يطوف بأمه على ظهره
وهذا رجل يماني يطوف بالبيت، يحمل أمه العجوز على ظهره، ويطوف بها بالبيت، من منا يفعل هذا؟ ومن منا يتصور هذا قبل أن يفعله؟ يحمل أمه على ظهره ثم يطوف حول البيت، هل وصلنا بالبر إلى هذا المستوى؟ هل وصلنا بطاعة الوالدين وحبهما إلى هذه الدرجة؟ يحملها على ظهره فيطوف بالبيت، فيرى ابن عمر ذلك الرجل الصحابي الفقيه، فقال له: [يا ابن عمر ! أتراني جزيتها؟ -تراني بهذا الفعل جزيت حق أمي وأرجعت لها الحقوق- فقال له ذلك الرجل العالم ابن عمر : لا. ولا بزفرة من زفراتها ]، ولا بطلقة من طلقاتها حين وضعتك من بطنها.
مهما فعلت -يا عبد الله- ومهما أحسنت إليها، فإنك -يا أخي الكريم- لن تصل إلى حقها ولو فعلت ما فعلت.
واسمع إلى القصة الأولى، وسوف نسرد هذه القصص ونتلوها ببعض العبر، وأرجو منك أخي الكريم أن ترعي لي سمعك وتنتبه، فهذه القصص ليست من نسج الخيال بل هي من واقعنا وواقع من قبلنا، ثم اعلم -يا عبد الله- بأن القصص غير هذه كثيرة وكثيرة، وغير هذه الحكايات أكثر، بل إنني استحيت من ذكر بعض القصص، وخجلت من ذكرها، لما فيها من وقاحة وعقوق وأنزه هذا المسجد وأنزه سمعك الطيب عن سماع مثل هذه القصص.
قصة عاق يفضل زوجته على أمه
فهذه قصة يرويها أحد بائعي المجوهرات، يقول: دخل عليَّ في المحل رجل ومعه زوجته، وخلفه أمه العجوز تحمل ولده الصغير، أربعة دخلوا في المحل، يقول: وأخذت زوجته تشتري من المحل، وتشتري من الذهب، وتأخذ من المجوهرات، ثم قال له هذا الرجل للبائع: كم حسابك؟ فقال له -وأنا أخبركم بالعملة التي ذكر بها الشيخ-: عشرون ألف ريال ومائة، فقال هذا الرجل: ومن أين جاءت هذه المائة؟ نحن حسبناها عشرين ألف، من أين هذه المائة ريال؟ من أين جاءت؟ قال: أمك العجوز اشترت خاتماً بمائة ريال، قال: أين هذا الخاتم؟ قال: هو ذا، فأخذ ابنها الخاتم ثم رماه إلى البائع، وقال: العجائز ليس لهن الذهب، ثم لما سمعت العجوز تلك الكلمات، بكت وذهبت إلى السيارة، فقالت زوجته: يا فلان! ماذا فعلت؟ لعلها لا تحمل ابنك بعد هذا.
لعلها لا تحمل لنا الابن، كأنها أصبحت خادمة، فعاتبه بائع المجوهرات، ثم ذهب إلى السيارة، وقال لأمه: خذي الخاتم إن كنت تريدين، خذي هذا الذهب إن أردتيه، فقالت أمه: لا والله لا أريد الذهب، ولا أريد الخاتم، ولكني أردت أن أفرح بالعيد كما يفرح الناس، فقتلت سعادتي فسامحك الله، فسامحك الله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] فبعد التوحيد والعبادة، ماذا يا رب: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ [الإسراء:23] لأن وقت الكبر أحوج ما يكونان إلى الأبناء، إلى الولد.
يا عبد الله! هذا وقت الحاجة، وهنا ترد الجميل، وهنا تحسن إليهما كما أحسنا إليك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] هل سمعت بكلمة أصغر من أف؟ إنك تستجيب ولكن بتأفف، تقول لك أمك: افعل، تفعل ولكنك متأفف، فهذا عقوق، وهذه كبيرة من الكبائر: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23] أي: أنك تشير بيديك إشارة، كأنك متضايق منهما، فتستجيب ولكن لا ترد عليهما بالكلام، ولكنها إشارة تدل على أنك تنهرهما: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24].
وكم وكم يا عبد الله من الرجال في هذه الأيام يقدمون الزوجة على الأم! يأتي إلى البيت بهدية، وتنظر الأم وترى بعينيها، لمن هذه الهدية؟ إنها للزوجة، يدخل الغرفة ويغلق الباب فيعطيها لزوجته، أين حق الأم؟ نسي الأم، فما تذكرها، يشتري لزوجته الملابس، ويسكنها أفخم الأثاث، ويلبسها أغلى الذهب والمجوهرات، ولكن أين أمه؟ لقد نسيها، منذ متى عرفت زوجتك يا عبد الله؟! كم أحسنت إليك الزوجة؟!
إن أمك قبل أن توجد على وجه الأرض كانت تحسن إليك، وكانت ترأف بك وكانت ترحمك وتشقى لأجلك قبل أن تنزل على وجه الأرض، أنسيتها -يا عبد الله- حينما تزوجت ولم تذكر حقها؟!
يا عبد الله! كم وكم من الرجال من يأخذ زوجته في سفر، وفي رحلة، وفي نزهة، ولا يكلف نفسه أن يقول لأمه: أتريدين الذهاب معنا؟ هلا سافرت معنا! فتجده لا يريدها.
يقول: الأم تضايقني، ولا تجعلني أرتاح مع زوجتي.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: [إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة ] يقول: ما في الدنيا عمل أكثر قربة إلى الله من بر الوالدة: (الزم قدميها فثم الجنة ).
شاعر يصف عقوق ابنه
واسمع إلى القصة الثانية: واسمع -يا عبد الله- إلى هذا العقوق، لتعلم أن ما خفي أعظم.
في السير أن أحد الأعراب وفد على الخليفة يبكي، فقال له: ما بك؟ قال: أصبت في ولدي بأعظم من كل مصيبة. قال: وما هي؟ -تخيل شيخاً كبيراً يبكي، وتخيل رجلاً كبيراً في السن يبكي بين يدي الخليفة- قال: ربيت ولدي، سهرت ونام، وأشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر واحدودب الظهر، تغمط حقي، ثم بكى بكاءً مراً، وقال:
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
فبكى وأبكى كل من في المجلس.
أيعقل أن يكون في الأولاد من يأخذ المال من أبيه ظلماً؟!
أيعقل أن تصل الوقاحة في الشخص أن يظلم والده؟!
أيعقل أن يكون هناك في الناس عقوق مثل هذه العقوق؟!
اسمع ماذا يقول الشاعر على لسان الأب كأنه يخاطب ابنه، وكن أنت كأن أباك يخاطبك بهذه الكلمات، فاسمعها وعها يا عبد الله:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تُعلُّ بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت لشكواك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت حتم مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذلم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
يا ليتك عاملت أباك كما يفعل الجار! يا ليتك جعلته كالصاحب! كم وكم من الناس من يزعمون الصلاح ومن يتظاهرون بالإسلام، ومن يتمسكون ببعض السنة؛ يحسن إلى صاحبه، ويعامل أصدقاءه بأحسن معاملة، فإذا جاء لأبيه وإذا جاء لأمه، اسمع لكلمات العقوق، واسمع للرفض، إذا قالت له أمه: أريد زيارة فلانة؟ قال: ألا يوجد غيري في البيت؟! اذهبي إلى فلان، ليذهب بك فلان، سبحان الله! أما إذا قال له صاحبه، وصديقه وجاره وخليله، فإنه لا يتأفف ولا يتردد، بل يستجيب أيما استجابة.
عبد الله: أسمعت بعقوق كهذا؟! أسمعت في الناس من يفعل مثل هذه الأفعال؟!